خدمة كامبردج بوك ريفيوز يندرج هذا الكتاب في سياق الأدبيات العديدة التي صدرت في السنوات الأخيرة التي اهتمت بإعادة تأريخ الصراع العربي الإسرائيلي, خاصة من زاوية تفكيك الروايات الإسرائيلية عن الصراع ونقض الخرافات التي صورت قيام إسرائيل كمعجزة "إلهية" تجسد "البراءة" اليهودية ضد دول عربية متوحشة كانت تريد أن تقضي على المشروع الصهيوني في مهده. وصورت أرض فلسطين أرضا بلا شعب تنتظر "شعب الله المختار" الذي لم تكن له أرض.
اسم الكتاب: حرب فلسطين: إعادة كتابة تاريخ حرب 1948 المؤلفان: يوجين روغان وآفي شلايم (محررون) عدد الصفحات: 234 الطبعة: الأولى- 2001م الناشر: كامبردج يونيفيرستي برس- كامبردج- المملكة المتحدة |
| مؤلفا الكتاب هما يوجين روغان, أستاذ تاريخ الشرق الأوسط الحديث في جامعة أوكسفورد وزميل كلية سانت أنتونيز, وآفي شلايم, بروفيسور العلاقات الدولية في جامعة أوكسفورد وزميل كلية سانت أنتونيز أيضا, وأحد أهم أشهر المؤرخين الإسرائيليين الجدد. شلايم نشر في العام الماضي كتابه الأهم بعنوان "الجدار الحديدي: إسرائيل والعالم العربي" أثبت فيه أن إسرائيل, وليس العرب, كانت السبب في دموية الصراع وفي تبني إستراتيجية هجومية توسعية أفشلت كل مساعي السلام والمبادرات الدولية الخاصة بذلك. في هذا الكتاب يعود روغان وشلايم إلى الحدث المفصلي الأكبر في تاريخ ذلك الصراع, حرب فلسطين عام 1948, ليعيدا كتابة تاريخ تلك الحرب في منهج بحثي ثلاثي الأبعاد، البعد الأول هو استخدام آخر ما كشف من وثائق رسمية كانت في قيد الأسرار, سواء في إسرائيل أو بريطانيا أو الولايات المتحدة, وهذا ما يبرر جزئيا العودة إلى تأريخ ذلك الحدث رغم الأدبيات الهائلة التي كتبت عنه. والبعد الثاني هو تحدي جملة من المقولات التقليدية السائدة, خاصة في الأدبيات الغربية والإسرائيلية حول تلك الحرب ومسارها والتحضير لها ونتائجها. أما البعد الثالث فهو استكتاب مؤرخين مختصين في فصول الكتاب التي ناقش كل منها دور إحدى الدول أو الجماعات الرئيسية في الحرب (رشيد الخالدي وبني موريس عن الفلسطينيين, آفي شلايم عن إسرائيل, يوجين روغان عن الأردن, جوشوا لاندس عن سوريا, تشارلز تريب عن العراق, فواز جرجس عن مصر, وليلى بارسونز عن الدروز). وفي ختام تلك المساهمات كتب إدوارد سعيد فصلا بعنوان "نتائج الـ1948" أجمل فيه الآثار التي انعكست عن تلك الحرب لجهة تشتيت الشعب الفلسطيني ومحاولة طمس وجوده ومحو هويته, والوحشية الصهيونية التي أرادت قلب عدالة القضية وتصوير الجاني بأنه الضحية, ونجاحها في استعطاف الرأي العام الغربي لدعم مشروعها الإحلالي في فلسطين. من دون التقليل من أهمية أي من فصول الكتاب الذي يعد إضافة نوعية بكل المعايير للأدبيات التي أرخت لحرب فلسطين, يمكن القول إن مساهمة رشيد الخالدي عن أسباب الفشل الفلسطيني في تلك الحرب, ومساهمة آفي شلايم حول تفاصيل الحرب بين إسرائيل من جهة والأطراف العربية من جهة أخرى هما أهم ما ورد في الكتاب.
” يسلط الكتاب الضوء على مواطن الخلل والضعف الفلسطيني الداخلي إبان الحرب ” | أهمية المساهمة التي كتبها رشيد الخالدي في هذا الكتاب تنبع من زاوية تسليط الضوء على مواطن الخلل والضعف الفلسطيني الداخلي إبان الحرب. فهو يقول في البداية إن المؤرخين الفلسطينيين والعرب عموما دأبوا على تجاهل أسباب الضعف وعدم الاستعداد والأهلية الفلسطينية للارتقاء إلى مستوى الأحداث, في خضم تحميل الصهيونية والدول الكبرى مسؤولية ما حدث في تلك الحرب التي قادت إلى ضياع فلسطين, الأمر الذي يوافق عليه الخالدي من ناحية المبدأ. لكن الاتجاه النقدي الذي يتوجه إليه هنا هو متركز على هشاشة البنية الفلسطينية الداخلية والخلافات الطاحنة، سواء بين الأحزاب أو العوائل الفلسطينية المسيطرة على قيادة الحركة الوطنية آنذاك في العقدين اللذين سبقا الحرب. والنقد الأكبر الذي تنطوي عليه مساهمة الخالدي موجه إلى الحاج أمين الحسيني, مفتي القدس. فهنا يرى الخالدي أن قيادة المفتي وسيطرته العملية على توجه الحركة السياسية الفلسطينية خلال وجود الانتداب البريطاني قد دمر الحركة الوطنية الفلسطينية وأعاق تطورها باتجاه ثوري مقاومي، فالحسيني عينته الإدارة الانتدابية البريطانية, وكانت تصرف له مرتبا شهريا, وضخمت من دوره ومركزه السياسي, وساعدته على توسيع دائرة نفوذه, وبالتالي فقد ضمنت عدم بروز قيادات منافسة للحسيني تقود الشارع ضد المصالح والسياسة البريطانية التي كانت تمهد عمليا لقيام إسرائيل, خاصة بعد صدور وعد بلفور عام 1917, وتغض النظر عن موجات الهجرة اليهودية المتعاظمة. وبالنسبة للخالدي فإن الحسيني بقيادته التقليدية الممالئة للإنجليز خاصة في مرحلة ما قبل ثورة 1936, كان يقع على طرف نقيض من الحركة الشعبية الثورية التي قادها عز الدين القسام الذي لم يكن يرى أسلوبا لمواجهة الاستعمار البريطاني وكذا العصابات الصهيونية المتزايدة القوة سوى الثورة المسلحة والمقاومة. وكان أسلوب ونهج القسام الثوري هو الذي أقض مضاجع الإنجليز ودفعهم إلى ضرب الحركة القسامية بوحشية بالغة وإعدام قادتها, بينما كانت تتلاطف مع قيادة الحسيني وتمدها بالغطاء السياسي والدبلوماسي اللازم. وفي الواقع فإن الخالدي يقسو على الحسيني إلى درجة تقترب من اتهامه بالعمالة للإنجليز, على خلاف بعض القراءات الأخرى لدور الحسيني, مثل قراءة بشير نافع في كتابه بالإنجليزية عن "العروبة والإسلامية وقضية فلسطين" (إثاكا برس, 1998), التي رأت فيه مساهمة كبيرة في نشر الوعي بقضية فلسطين في البلدان العربية, وجذب اهتمام مسلمي العالم بقضية القدس خاصة عبر المؤتمر الإسلامي الذي عقده فيها ودعا المسلمين إلى التيقظ والحذر من مخططات الصهيونية.
” يكشف الكتاب العلاقات السرية التواطؤية بين الوكالة اليهودية وزعماء المنظمات الصهيونية من جهة وبعض الأطراف العربية من جهة أخرى ” | أما مساهمة آفي شلايم حول تفاصيل ما قبل الحرب خاصة على صعيد العلاقات السرية التواطؤية بين الوكالة اليهودية وزعماء المنظمات الصهيونية من جهة وبعض الأطراف العربية من جهة أخرى فهي مثيرة ومحبطة في آن معا. فهناك أولا تفصيل موثق بشأن الاجتماع السري بين الملك عبد الله وغولدا مائير رئيسة الوكالة اليهودية, في 17 نوفمبر/ تشرين الثاني 1947 قبيل الحرب, حول موافقة الملك عبد الله على قرار التقسيم الذي كان قيد الإعلان في الأمم المتحدة (ص83-84). وفي ذلك الاجتماع اتفق الطرفان على أن يحتل الجيش الأردني الجزء المخصص للعرب من فلسطين بحسب قرار التقسيم, وتعهد الملك ألا يصل الجيش الأردني إلى المناطق المخصصة لإسرائيل بحسب ذلك القرار, وفي المقابل فإن إسرائيل سوف تحترم وتقر بالسيطرة الأردنية على الأراضي التي سيطرت عليها, والتي سوف تعرف لاحقا باسم الضفة الغربية. وكان مسار الأحداث في الحرب قد أكد ذلك الاتفاق حيث التزم الجيش الأردني بعدم الاقتراب من المناطق التي احتلتها المنظمات الصهيونية, لكن تلك المنظمات لم تحترم من جانبها الاتفاق واحتلت أجزاء كان قرار التقسيم قد خصصها للجانب العربي. يكشف آفي شلايم أيضا عن اتصالات مثيرة قبيل الحرب بين زعماء من منظمة الهاغاناه, كبرى المنظمات الصهيونية ونواة الجيش الإسرائيلي لاحقا, وفوزي القاوقجي قائد الفيلق العربي الذي شكلته الجامعة العربية بشكل اعتباطي ومتأخر تحسبا للأحداث التي سوف تقع بعد انسحاب قوات الانتداب البريطانية يوم 14 مايو/ أيار 1948. ويعتمد شلايم على وثائق إسرائيلية وبريطانية نزعت عنها السرية مؤخرا ليستعرض اجتماعات تمت بين القاوقجي وجوشوا بالمون, أحد أهم ضباط استخبارات الهاغاناه, وأول رئيس لجهاز الموساد الإسرائيلي بعد قيام إسرائيل. كان القاوقجي على عداء مستحكم مع الحاج أمين الحسيني مفتي القدس وابن عمه عبد القادر الحسيني وكذلك حسن سلامة أحد القادة العسكريين للقوات الشعبية التي أنشأها الحسيني. استغلت الهاغاناه ذلك العداء واجتمع بالمون, الذي يتحدث العربية بطلاقة, مع القاوقجي يوم 1 أبريل/ نيسان في غابة قريبة من قرية نور الشمس, واتفق معه على عدم التدخل في أي معركة تقوم بين الهاغاناه وقوات عبد القادر الحسيني. وبالفعل قامت الهاغاناه بشن معركة كبيرة بعد ذلك بأربعة أيام أي في 4 أبريل/ نيسان لفتح طريق القدس- تل أبيب, دمرت أثناءها مقر قيادة عبد القادر الحسيني في رام الله. وبعدها كانت معركة القسطل الشهيرة حيث هاتف الحسيني القاوقجي طالبا إرسال قوات مساندة, لكن القاوقجي, الذي كانت لدية ذخائر وأسلحة من الجامعة العربية, اعتذر وزعم أنه لا يملك أي أسلحة, وكانت استخبارات الهاغاناه قد رصدت المكالمة الهاتفية وتأكدت من التزام القاوقجي باتفاقه مع بالمون (ص 86).
” يدعو الكتاب إلى ضرورة قيام مدرسة تأريخ فلسطيني وعربي جديد توازي مدرسة التأريخ الإسرائيلي الجديد وتقوم بغربلة المقولات العربية والفلسطينية التقليدية وإعادة تركيب الأحداث والرؤى بمنهج نقدي غير تبريري ” | يطرح الكتاب أيضا في سياق مداخلات شلايم والخالدي وسعيد موضوع إعادة تأريخ الصراع العربي الإسرائيلي من وجهة نظر فلسطينية وعربية. وما يدعو له شلايم, وعدد آخر من المؤرخين الإسرائيليين الجدد, هو ضرورة قيام "مدرسة تأريخ فلسطيني وعربي جديد" توازي "مدرسة التأريخ الإسرائيلي الجديد", وتقوم بغربلة المقولات العربية والفلسطينية التقليدية وإعادة تركيب الأحداث والرؤى بمنهج نقدي غير تبريري. ومنطلق هذه الدعوة في الأساس هو ما يقوله المؤرخون الإسرائيليون الجدد من أنهم قطعوا منتصف المسافة عبر نقدهم للتأريخ الإسرائيلي وتفكيك خرافاته, وأنه آن الأوان للمؤرخين العرب والفلسطينين أن يقطعوا نصف المسافة المتبقية. وأبعد من ذلك فإن لإعادة كتابة التاريخ بمنهج نقدي مهمة أخرى, كما يقول شلايم, تتجاوز الدعوة إلى تقليد المؤرخين الإسرائيليين الجدد وتتعلق بالانفكاك من أسر التأريخ غير الموثق والموضوعي الذي لا يكرس شرعية الدولة, كما يظن أنصار التاريخ الرسمي, ولا ينشر المعرفة بين المواطنين (ص 7). غير أن هذه الدعوة لا يستسيغها الخالدي الذي يقول إنه رغم ضرورة كشف مواطن الخلل في الأداء العربي والفلسطيني, وعدم المجاملة في تحميل أجزاء من مسؤولية النكبة للعجز الذي كان ظاهرا في جانب العرب والفلسطينيين, إلا أن ذلك لا يعني أنه يقلل من جريمة الطرف الآخر, الصهيوني, أو يثير أي تساؤل حول موقعي "الضحية" و"الجلاد" في هذا الصراع (ص 17), وهي الفكرة نفسها التي يقولها أيضا إدوارد سعيد (ص 212). فالضحية هي الشعب الفلسطيني سواء تم التوصل إلى هذه النتيجة بالتاريخ التقليدي أم التاريخ الجديد.
|