انس بن مالك
خادمرسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يتسمَّى به، ويفتخر بذلك، وهو أنس بنمالك بن النضر بن ضمضم بن زيد بن حرام، من بني النجار أنصاري خزرجي،وكنَّاه رسول الله بأبي حمزة، ببقلة كان يجتنيها فيها حموضة، تقول العرب:رمّانة حامزة، أيْ فيها حموضة.
أمهأم سليم، الصحابيّة الجليلة، تزوجها أبو طلحة بعد مقتل مالك بن النضر،وُلِدَ قَبْلَ الهِجْرة بعشر سنوات على قول، وقد أخذت أم سليم بيد ابنهاأنس، فأتت به رسول الله فقالت: يا رسول الله هذا ابني، وهو غلام كاتب..قال أنس: فخدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم تسع سنين، فما قال لي لشيءقطّ صنعته: أسأت أو بئس ما صنعت.. وهذا من كمال خلقه عليه الصّلاةوالسلام، الذي أدّبه ربه فأحسن تأديبه.. وقد دعا رسول الله صلى الله عليهوسلم لأنس بن مالك بكثرة المال والولد وطول العمر، فوُلد له من صلبهثمانون ذكراً، وابنتان ومات وله من ولده، وولد ولده: مائة وعشرون ولداً،ومات وعمره مائة وثلاث سنوات.
وهو والد الإمام مالك بن أنس، صاحب المذهب الفقهيّ المشهور في الشّمالالأفريقيّ والأندلس وغيرهما، وقد كان أنس يشدّ أسنانه بالذهب، وكانمشهوراً بحسن الإصابة في الرماية، ويأمر ولده أن يرموا بين يديه، وربمارمى معهم فيغلبهم بكثرة إصابته، وذكر ابن الأثير في كتابه أسد الغابة فيمعرفة الصحابة أنه كان يلبس الخزّ ويتعمّم به، وقال: إن نقش خاتمه صورةأسد رابض.
وهو آخر من توفي بالبصرة من الصّحابة -رضي الله عنهم- ودفن هناك علىفرسخين من البصرة. وجاء في ترجمة سهل بن سعد الساعديّ الأنصاريّ: إنالحجاج بن يوسف أمير العراق، أرسل في سنة أربع وسبعين، إلى سهل بن سعد رضيالله عنه، وقال له: ما منعك من نصر أمير المؤمنين عثمان؟
قال: قد فعلت ذلك، قال الحجاج: كذبت، ثم أمر به فختم في عنقه، وختم أيضاًفي عنق أنس بن مالك، خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى ورد عليهكتاب عبد الملك بن مروان فيه، أي في أنس، وختم في يد جابر بن عبد الله رضيالله عنه، يريد الحجاج إذلالهم بذلك وأن يجتنبهم الناس، ولا يسمعوا منهم.
وقد كانت ولادته -رضي الله عنه- بالمدينة، أسلم صغيراً، فكانت أمه تلقّنهشهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، منذ حداثة سنّه، وهذا منتأثير الأمهات الصّالحات في التربية وحسن توجيه أبنائهن، وتعليمهم ماينفعهم في دينهم ودنياهم وآخرتهم.
وقد استمر في خدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى أن قبض، وتأدب بأدبهوتعلَّم منه، حيث روى عنه البخاريّ ومسلم (2286 حديثاً)، وهو من أكثرالصحابة أخذاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لطول ملازمته، وقد روىعنه ابنه الإمام مالك كثيراً من الأحاديث ضمّنها كتابه الموطأ.. وقدم دمشقوافداً من المدينة في زمن الوليد بن عبد الملك ثم ذهب إلى البصرة وسكنهاإلى أن مات فيها عام 93هـ.
وكان ورعاً تقياً، يقول الزّهريّ، وهو بدمشق: دخلت على أنس بن مالك،فوجدته وحده يبكي، فسألته ما يبكيك؟ قال: ما أعرف شيئاً مما أدركنا إلاالصّلاة، وهذه الصلاة قد ضيّعتْ.
ولما قدم على الوليد بن عبد الملك، قال له الوليد: ما سمعت من رسول اللهيذكّر به السّاعة؟ فحدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (لَسْتُمن الدنيا، وليست مني؟ إني بُعِثْتُ والساعة نستبق) وقال أبو مُهْر: قدمأنس بن مالك على الوليد بن عبد الملك حين استخلف في سنة ستّ وثمانين.
وفي قصّة بدايته لخدمة رسول الله، حدّث سعيد بن المسيّب رحمه الله، عن أنسبن مالك قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وأنا ابن ثمانيسنين، فأخذتْ أمي بيدي وانطلقت بي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم،فقالت: يا رسول الله إنّه لم يبقَ رجل ولا امرأة من الأنصار إلا قد أتحفكبتحفة، وإني لا أقدر على ما أتحفك به إلا ابني هذا فخذه فليخدمك ما بدالك؟ قال أنس: فخدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم، عشر سنين فما ضَرَبَنِيضَرْبَةً، ولا سبّني سبّة، ولا انتهرني ولا عبس في وجهي، فكان أوّل ماأوصاني به، إلى أن قال: يا بنيّ اكتم سرِّي تكُ مؤنك مؤتنا، فكانت أميوأزواج رسول الله صلى عليه وسلم يسألنني عن سرّ رسول الله فلا أخبرهن به،وما أنا مخبر بسرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أحداً أبداً.. ثم أردفسعيد بقوله:
وقال لي مرة: يا بنيّ عليك بإسباغ الوضوء يحبّك حافظاك، ويزد في عمرك، ويابنيّ بالغ في الاغتسال من الجنابة، فإنّك تخرج من مغتسلك وليس عليك ذنب،ولا خطيئة، قال: قلت يا رسول الله، كيف المبالغة، قال: تبلّغ أصول الشعر،وتنقّي البشرة.
ويا بني إنْ استطعْتَ أنْ لا تزال أبداً على وضوء، فإنه من يأتيه الموتوهو على وضوء يعطى الشّهادة، ويا بنيّ إن استطعت أنْ لا تزال تصلي، فإنالملائكة تصلّي عليك، ما دُمْتَ مصلّياً، ويا بني إذا ركعت فأمكن كفّيك منركبتيك، وأفرج أصابعك، وارفع مرفقيك عن جنبيك، ويا بنيّ إذا رفعْتَ رأسكمن الركوع فأمكن كل عضو منك موضعه، فإنّ الله لا ينظر يوم القيام إلى منلا يقيم صلبه، بين ركوعه وسجوده، ويا بنيّ فإذا سجدت فأمكن جبهتك وكفّيكمن الأرض، ولا تنقر نقر الدِّيك، ولا تقعِ إقْعاء الكلب، أو قال: إقعاءالثّعلب، وإيّاك والالتفات في الصلاة، فإن الالتفات في الصلاة هلكة، فإنْكان ولابدّ ففي النافلة لا في الفريضة، ويا بني إذا خرجْتَ من بيتك فلاتقعنّ عينك على أحد من أهل القبلة، إلا سلمت عليه، فإنّك ترجع مغفوراً لك،ويا بنيّ إذا دخَلْتَ منزلك، فسلم على نفسك وعلى أهلك، ويا بنيّ إن استطعتأن تصبح وتمسي وليس في قلبك شيء لأحد، فإنّه أهون عليك في الحساب، ويابنيّ إنْ اتّبعت وصيّتي فلا يكن شيء أحبّ إليك من الموت.
وفي رواية: يا بني إن قدرت أنْ تكون من صلاتك في بيتك، مثنى فافعل. وفيآخر الحديث، ثم قال: يا بنيّ وذلك في سنتي، ومن أحب سنتي فقد أحبّني، ومنأحبّني كان معي في الجنّة، وفي رواية ابن همام: عن أنس قال: خدمت رسولالله صلى الله عليه وسلم، وأنا ابن ثمان، وقبض وأنا ابن ثماني عشرة، فماقال لي لشيء صنعته، لمَ صنعته؟ ولا قال لي لشيء لمْ أصنعه لِمَ لم تصنعه؟وقال لي في مرضه: إني أوصيك بوصيّة فاحفظها؛ كثر الوضوء يزد في عمرك، ولاتزال طاهراً ولا تبيتنّ إلا على طُهْر، فإن متّ متّ شهيداً، وأكثر صلاةالليل والنهار، تحبّك الحفظة، وصلِّ صلاة الضّحى، فإنّها صلاة الأوّابين،وإذا خرجْتَ من بيتك، فسلّم على كُلّ من لقيت من المسلمين تُزَدْ فيحسناتك، وإذا دخلت على أهلك فسلّم عليهم يُزَدْ في بركاتك، ووقّر كبيرالمؤمنين وارحمنّ صغيرهم تكن معي وضمّ بين أصابعه.
فهذه الوصايا أغلى من الذهب والجوهر، هي لأنس بن مالك رضي الله عنه، وصيّةمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعِلْم يجب عليه أن يبلّغه خوفاً منالإثم بكتمان العلم، وهي لغيره من المسلمين إلى أن يرث الله الأرض ومنعليها، نفائس يجب أن تغتنم، ولآلئ يجب أن تستثمر، فهي لا تكلف مالاً ولاجهداً، ولكنها تترك أثراً ورصيداً في حسنات المؤمن الذي يعمل بها.
كيف لا وهي من مشكاة النبوة، يعلّم بها فرداً من المسلمين، ومن الرّعيلالأول، الذين هم خير القرون بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنه قرنالصحابة الكرام، الذين يأخذون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم العلم،ليطبّقوه في أنفسهم، ويبلّغوه لمن بعدهم، وقد روى ثابت البُنانيّ عنه قال:قال أنس: دخل النبيّ صلى الله عليه وسلم علينا، وما هو إلا أنا وأمي وأمحرام خالتي، قال: قوموا فلأُصلّ بكم - في غير وقت صلاة - فصلّى بنا: فقالرجل لثابت البُناني: أَيْنَ جعل أنساً منه؟ قال: جعله عن يمينه.. ثم دعالنا أهل البيت، بكل خير من خير الدنيا والآخرة، فقالت أمي يا رسول اللهخويدمك ادع الله له، قال: فدعا لي بكل خير، فكان من آخر ما دعا به لي أنقال: اللهم أكثر ماله وولده وبارك له فيه.
وفي حديث آخر قال: اللهم أكثر ماله وولده، وأطِلْ عمره، واغفر له فقالأنس: فكثر مالي حتى صار يطعم في السّنة مرّتين، وكثر ولدي حتى قد دفنت منصلبي أكثر من مائة، وطال عمري حتى قد استحييت من أهلي واشتقت للقاء ربي،وأنا أرجو الرابعة.
وقد كان له بستان يحمل الفاكهة في السّنة مرّتين، وكان فيها ريحان يجيءمنه ريح المسك، يقول أنس رضي الله عنه: لمّا كان صبيحة اليوم الذي احتلمتفيه أخبرت النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: لا تدخل على النّساء إلا بإذنقال: فما أتى علي يوم كان أشدّ عليّ منه.
بنت حاتم الطائي
قال في كتاب قصص العرب لعلي البجاوي وزميليه: قال علي بن أبي طالب رضيالله عنه: يا سبحان الله ما أزهد كثيراً من الناس في الخير، عجبت لرجليجيئه أخوه في حاجة فلا يرى نفسه للخير أهلاً، فلو كان لا نرجو جنّة ولانخاف ناراً، ولا ننتظر ثواباً، ولا نخشى عقاباً، لكان ينبغي لنا أن نطلبمكارم الأخلاق، فإنها تدلّ على سبيل النجاة، فقام إليه رجل فقال: فداك أبيوأمي يا أمير المؤمنين أسمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
قال: نعم وما هو خير منه، لمّا أتينا بسبايا طيء، كانت في النساء جاريةحماء حوراء العينين، لعساء لمياء عيطاء، شمّاء الأنف معتدلة القامة.
فلما رأيتها أعجبت بها، فقلت لأطلبنّها من رسول الله ليجعلها من فيئي،فلمّا تكلّمتْ أنسيت جمالها، لما سمعت من فصاحتها، قالت: يا محمد هلكالوالد، وغاب الوافد، فإن رأيت أن تخلّي عنّي، فلا تشمت بي أحياء العرب؟!
فإني بنت سيد قومي، كان أبي يفكّ العاني، ويحمي الذّمار، ويقري الضيف،ويشبع الجائع، ويفرِّج عن المكروب، ويطعم الطعام، ويفشي السلام، ولم يردّطالب حاجة قطّ، أنا بنت حاتم الطائي.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لها: يا جارية هذه صفات المسلم - وفيرواية المؤمن - ولو كان أبوك إسلامياً لترحّمنا عليه خلّوا عنها فإن أباهاكان يحب مكارم الأخلاق. وكان أخوها قد هرب للشام، فبعثها رسول الله معقافلة للشام، فالتقت بأخيها وعذلته، ومدحت له معاملة رسول الله، ورغّبتهبالإسلام فرجعا من الشام للمدينة وأسلما.