لم تظهر عليه ملامح النبوغ في سنوات دراسته الأولى، بل ان احد أساتذته وصفه بأنه تلميذ عادي في الكيمياء او دون ذلك.. وكان ميله كبيراً للرسم.. ولا تزال بعض لوحاته التي رسمها قبل بلوغه السادسة عشرة لوالده ولوالدته وبعض اصدقائه باقية تدل على دقة كبيرة وقوة ملاحظة.
إنه عالم الكيمياء والأحياء الفرنسي «باستير» الذي يعتبر من اعظم الشخصيات في تاريخ الطب.. فقد ساهم باجتهادات كثيرة في العلوم الحديثة ولكن فضله الأول يرجع الى اكتشافه الجراثيم وعلاقتها بالمرض وايضاً الى اكتشافه التطعيم الواقي منها.
ولد لويس أولوي باستير في 27 ديسمبر عام 1822م في بلدة «دول» بفرنسا وانتقلت العائلة بعد مولده بقليل الى بلدة «مارنو» ثم الى «أربوا» حيث لا يزال منزله القديم قائماً على حاله وقد تحول الى متحف صغير.. وقد بدأ باستير الطفل دراسته في المدرسة الابتدائية ببلدة «أربوا» ثم تابعها منتسباً بسبب ضيق الموارد بكلية «أربوا» وقد نصح مدير الكلية أباه ان يلحقه بكلية المعلمين في باريس وبالفعل ذهب باستير الى باريس 1838 ولكن نظراً لضيق ذات يده لم يتمكن من البقاء طويلاً هناك فعاد الى بلدته ليكمل دراسته بها ولمس في نفسه شغفه بالعلوم فانتقل الى بلدة «بيزانسون» ليدرس في كليتها وفيها تخرج عام 1841، وكان لا يزال يحلم بدخول كلية المعلمين في باريس وفي العام التالي تقدم اليها وكان ترتيبه الرابع عشر من بين اثنين وعشرين من المتقدمين ولكنه لم يرض عن ذلك فتقدم مرة أخرى في السنة التالية فكان ترتيبه الرابع والتحق بالكلية وقد كان للسنة الأولى من الدراسة تأثير كبير على نفس «باستير» وزاد من هذا التأثير صلاته المباشرة مع كثير من العلماء الكبار في السوربون وكلية المعلمين.
وفي عام 1847 تخرج من كلية المعلمين بعد حصوله على درجة الدكتوراه في العلوم وفي العام التالي مباشرة اكتشف ظاهرة عدم التماثل الجزيئي في بعض أملاح أحد الأحماض مما رفع قدره كثيراً وجلب له كرسي الأستاذية في كلية «ديجون» غير أنه لم يسعد بهذا التعيين فقد قطع عليه سلسلة بحوثه الكيميائية في علم البللورات. وفي عام 1849 عين استاذاً بكلية العلوم بجامعة ستراسبورج وتزوج من «ماري لوان» ابنة مدير الجامعة والتي قامت على خدمته واعانته في بحوثه وعملت له مساعدة معمل وسكرتيرة.
لبث «باستير» في تلك الجامعة حتى عام 1854 ثم بدأت مرحلة هامة في تاريخ حياته وتاريخ العلم عامة وذلك عند تعيينه استاذاً وعميداً لكلية العلوم في جامعة «ليل» في المدة من 1854 1857 وفي هذه الفترة بدأ بحوثه على عملية التخمر وكيف تحدث واستخدام الميكروسكوب في ذلك. واهتدى الى ان سبب التخمر يرجع الى كائنات جرثومية صغيرة وان هذه الكائنات هي المسؤولة عن افساد المشروبات المخمرة.. وبسرعة توصل الى نتيجة أخرى هي ان هذه الكائنات من الممكن ان تؤدي الى إيذاء الإنسان والحيوان. ولم يكن باستير هو أول من لاحظ ذلك فقد سبقه كثيرون ولكنه هو أول من أثبت بالتجربة صحة نظريته وهذا وحده هو الذي أدى الى اقناع كل العلماء في عصره.
من أجل ذلك ابتكر «باستير» طريقة «البسترة» نسبة اليه للقضاء على الجراثيم والميكروبات التي تصيب اللبن وبعض الأشربة الأخرى وذلك بتسخينها لدرجة حرارة معينة ثم تبريدها تبريداً مفاجئاً ويعتبر ذلك تعقيماً لها.
وقد لجأ اليه استاذه القديم «دوماس» طالباً منه إنقاذ صناعة الحرير في جنوب فرنسا من مرض يصيب دودة الحرير فيقضي عليها فانتقل باستير مع أعوانه الى مناطق الإصابة وتعلم من الفلاحين دورة حياة الدودة والأعراض التي تظهر على المريض منها وفحصها تحت الميكروسكوب فوجد ان هناك مستعمرات صغيرة من الميكروبات هي التي تسبب المرض. وبعد ست سنوات قضاها باستير وثلاثة من اعوانه ومعهم دائماً مدام باستير امكن القضاء على مرض دودة الحرير وامكن انقاذ صناعته التي تقدر بملايين الفرنكات.
لقد أدت أبحاث واكتشافات باستير عن الجراثيم والميكروبات والأمراض التي تسببها الى ذيوع شهرته في فرنسا وفي العالم كله واعتمد عليها الجراح الاسكتلندي الشهير «جوزيف ليستر» وطبقها في عمليات التعقيم التي اجراها لمرضاه وانقذ منهم كثيرين..
الجمرة الخبيثة
كما نجح باستير أيضاً في القضاء على مرض كوليرا الدجاج وعلى مرض الجمرة الخبيثة التي تصيب الماشية.. لقد أمكن تحضير أمصال من ميكروب هذا المرض وغيره وحقنها في الحيوانات المريضة فتشفيها بعد فترة.
ثم ركز باستير أبحاثه بعد ذلك على مرض الكلب، ذلك المرض الخطير الذي يعوي المريض به كالكلاب! ويصاب بعطش شديد لا يطفئه الماء، فالماء يخنقه ويحبس أنفاسه ثم يتطور المرض حتى ينتهي بالموت.. وكانت وسيلة العلاج السائدة هي كي مكان العضة بالحديد المحمي وان لم تؤد الى نتيجة في أغلب الحالات. وبعد أبحاث متعددة وتجارب فاشلة وأخرى ناجحة توصل باستير الى تحضير لقاح ضد هذا المرض اللعين. وفي السادس من يولية عام 1885 بدأ علاج أول آدمي من عضة كلب مسعور.. وبعد اربع عشرة حقنة اعطاها له باستير، عاد الصبي «جوزيف مايستر» الى بلدته ولم تظهر عليه أية أعراض للمرض بعد ذلك، وقد وفد اليه اعداد غفيرة ممن اصابتهم الكلاب والذئاب المسعورة من جميع أرجاء فرنسا ومن خارجها لكي يعالجهم.
وقد جاءه يوماً تسعة عشر فلاحاً من مدينة «مولنسك» الروسية عضهم ذئب مسعور ومضت على اصابتهم ما يقرب من ثلاثة اسابيع جاءوا الى باريس يطلبون النجاة على يد باستير وكان خمسة منهم في حالة سيئة جداً. وقام باستير بحقنهم بأمصاله التي أعدها.. واقتصاداً للوقت كان يحقنهم صباحاً ومساء.. وانتظر العالم ليسمع نتائج هذه التجربة، وكانت النتيجة نصراً هائلاً لنظريات باستير.. فقد نجا ستة عشر مصاباً.. ومات ثلاثة، كان من الواضح ان «الميكروب» قد سبق الى جهازهم العصبي فلا حيلة للأمصال فيها.. وعاد الفلاحون الى بلادهم والعالم كله يهلل لباستير.. وبعث قيصر روسيا له وساماً اضافة الى الأوسمة الكثيرة التي ازدحم بها صدره.. كما ارسل اليه هبة من المال لبناء معامل جديدة وبعدها انهالت الهبات الأخرى التي رصدت لإنشاء «معهد باستير» في باريس والذي افتتح في نوفمبر عام 1888م.
وبمناسبة بلوغه عامه السبعين، أقامت له فرنسا حفلاً كبيراً واجتمعت الوفود من جميع أنحاء العالم في مدرج السوربون الكبير، في ديسمبر عام 1892 ودخل باستير وهو يعرج قليلاً من اثر شلل قديم قد أصابه، وهو مستند على ذراع رئيس الجمهورية، والقوم كلهم وقوف يحيونه.. واندفع اليه «جوزيف ليستر» يعانقه ثم يقول في وصفه انه «رجل آمن إيماناً راسخاً أن العلم والسلم سوف ينتصران على الجهل والحرب وان الناس سوف تجتمع على البناء لا التخريب».
وبعد ثلاث سنوات من هذا التكريم وفي 28 سبتمر عام 1895 توفي باستير ودفن في مقبرة أعدت له في معهده.